الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الشفا بتعريف حقوق المصطفى ***
فِيمَا وَرَدَ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ، وَمَشْهُورِهَا بِعَظِيمِ قَدْرِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، وَمَنْزِلَتِهِ، وَمَا خَصَّهُ بِهِ فِي الدَّارَيْنِ مِنْ كَرَامَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَصْلًا
لَا خِلَافَ أَنَّهُ أَكْرَمُ الْبَشَرِ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَفْضَلُ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ، وَأَعْلَاهُمْ دَرَجَةً، وَأَقْرَبُهُمْ زُلْفَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدِ اقْتَصَرْنَا مِنْهَا عَلَى صَحِيحِهَا، وَمُنْتَشِرِهَا، وَحَصَرْنَا مَعَانِيَ مَا وَرَدَ مِنْهَا فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَصْلًا.
فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، وَالِاصْطِفَاءِ، وَرِفْعَةِ الذِّكْرِ، وَالتَّفْضِيلِ، وَسِيَادَةِ وَلَدِ آدَمَ، وَمَا خَصَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَزَايَا الرُّتَبِ، وَبَرَكَةِ اسْمِهِ الطَّيِّبِ أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْعَدْلُ إِذْنًا بِلَفْظِهِ. [حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْفَرْغَانِيُّ، حَدَّثَتْنَا أُمُّ الْقَاسِمِ بِنْتُ أَبِي بَكْرِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهَا، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ وَهُوَ ابْنُ عَقِيلٍ، عَنْ يَحْيَى وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَحْيَى الْحِمَّانِيِّ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رَبْعِيٍّ]، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ الْخَلْقَ قِسْمَيْنِ، فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهِمْ قِسْمًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَصْحَابُ الْيَمِينِ} وَ {أَصْحَابُ الشِّمَالِ} فَأَنَا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَنَا خَيْرُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. ثُمَّ جَعَلَ الْقِسْمَيْنِ أَثْلَاثًا، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهَا ثُلُثًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}. وَ {أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} وَ {السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} فَأَنَا مِنَ السَّابِقِينَ، وَأَنَا خَيْرُ السَّابِقِينَ، ثُمَّ جَعَلَ الْأَثْلَاثَ قَبَائِلَ، فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهَا قَبِيلَةً، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} [الْحُجُرَاتِ: 13] الْآيَةَ. فَأَنَا أَتْقَى وَلَدِ آدَمَ، وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَلَا فَخْرَ. ثُمَّ جَعَلَ الْقَبَائِلَ بُيُوتًا، فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهَا بَيْتًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 33] الْآيَةَ. وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ؟ قَالَ: «وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ، وَالْجَسَدِ». وَعَنْ ، وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ. وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ». وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي، وَلَا فَخْرَ». وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : «أَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخِرِينَ، وَلَا فَخْرَ». وَعَنْ عَائِشَةَ،- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: قَلَّبْتُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ، وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَرَ رَجُلًا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلَمْ أَرَ بَنِي أَبٍ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ. وَعَنْ أَنَسٍ:- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: بِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ، فَارْفَضَّ عَرَقًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ أَهْبَطَنِي فِي صُلْبِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَجَعَلَنِي فِي صُلْبِ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، وَقَذَفَ بِي فِي النَّارِ فِي صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَنْقُلُنِي فِي الْأَصْلَابِ الْكَرِيمَةِ إِلَى الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ حَتَّى أَخْرَجَنِي بَيْنَ أَبَوَيَّ لَمْ يَلْتَقِيَا عَلَى سِفَاحٍ قَطُّ». وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلَالِ وَفِي *** مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ ثُمَّ هَبَطْتَ الْبِلَادَ لَا بَشَرٌ *** أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ *** أَلْجَمَ نَسْرًا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ *** إِذَا مَضَى عَالِمٌ بَدَا طَبَقُ ثُمَّ احْتَوَى بَيْتُكَ الْمُهَيْمَنُ مِنْ *** خِنْدَفٍ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْ *** ضُ، وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءِ وَفِي النُّـ *** ـورِ، وَسُبُلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ يَا بَرْدَ نَارِ الْخَلِيلِ يَا سَبَبًا *** لِعِصْمَةِ النَّارِ وَهْيَ تَحْتَرِقُ وَرَوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو ذَرٍّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا، وَفِي بَعْضِهَا سِتًّا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِنَبِيٍّ قَبْلِي، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ». وَفِي رِوَايَةٍ بَدَلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ: «وَقِيلَ لِي: سَلْ تُعْطَهُ». وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «وَعُرِضَ عَلَيَّ أُمَّتِي فَلَمْ يَخْفَ عَلَيَّ التَّابِعُ مِنَ الْمَتْبُوعِ». وَفِي رِوَايَةٍ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ». قِيلَ: السُّودُ: الْعَرَبُ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَلْوَانِهِمُ الْأُدْمَةُ، فَهُمْ مِنَ السُّودِ. وَالْحُمْرُ: الْعَجَمُ، وَقِيلَ: الْبِيضُ، وَالسُّودُ مِنَ الْأُمَمِ، وَقِيلَ: الْحُمْرُ: الْإِنْسُ. وَالسُّودُ: الْجِنُّ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ جِيءَ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي». وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: «وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ». وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ. وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ. وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا». وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ، لَا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَخَوَاتِمَهُ، وَعُلِّمْتُ خَزَنَةَ النَّارِ، وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ». وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: «بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ». وَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَلْ يَا مُحَمَّدُ. فَقُلْتُ: مَا أَسْأَلُ يَا رَبِّ؟ اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَاصْطَفَيْتَ نُوحًا، وَأَعْطَيْتَ سُلَيْمَانَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا أَعْطَيْتُكَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، أَعْطَيْتُكَ الْكَوْثَرَ، وَجَعَلْتُ اسْمَكَ مَعَ اسْمِي، يُنَادَى بِهِ فِي جَوْفِ السَّمَاءِ، وَجَعَلْتُ الْأَرْضَ طَهُورًا لَكَ، وَلِأُمَّتِكَ، وَغَفَرْتُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ، فَأَنْتَ تَمْشِي فِي النَّاسِ مَغْفُورًا لَكَ، وَلَمْ أَصْنَعْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ، وَجَعَلْتُ قُلُوبَ أُمَّتِكَ مَصَاحِفَهَا، وَخَبَّأْتُ لَكَ شَفَاعَتَكَ، وَلَمْ أُخَبِّئْهَا لِنَبِيٍّ غَيْرِكَ». وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: رَوَاهُ حُذَيْفَةُ: «بَشَّرَنِي- يَعْنِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ- أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، مَعِي مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَيْسَ عَلَيْهِمْ حِسَابٌ، وَأَعْطَانِي أَلَّا تَجُوعَ أُمَّتِي، وَلَا تُغْلَبَ، وَأَعْطَانِي النَّصْرَ، وَالْعِزَّةَ، وَالرُّعْبَ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ أُمَّتِي شَهْرًا، وَطَيَّبَ لِي وَلِأُمَّتِي الْمَغَانِمَ، وَأَحَلَّ لَنَا كَثِيرًا مِمَّا شَدَّدَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». مَعْنَى هَذَا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ بَقَاءُ مُعْجِزَتِهِ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَسَائِرُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ ذَهَبَتْ لِلْحِينِ، وَلَمْ يُشَاهِدْهَا إِلَّا الْحَاضِرُ لَهَا، وَمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ يَقِفُ عَلَيْهَا قَرْنٌ بَعْدَ قَرْنٍ عَيَانًا لَا خَبَرًا إِلَى الْقِيَامَةِ. وَفِيهِ كَلَامٌ يَطُولُ هَذَا نُخْبَتُهُ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ، وَفِيمَا ذُكِرَ فِيهِ سِوَى هَذَا آخِرَ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ. وَعَنْ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: كُلُّ نَبِيٍّ أُعْطِيَ سَبْعَةَ نُجَبَاءَ وُزَرَاءَ رُفَقَاءَ مِنْ أُمَتِّهِ، وَأُعْطِيَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَجِيبًا، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارٌ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ». وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَعِدَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ». وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ-، قَالُوا: فَمَا فَضْلُهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِأَهْلِ السَّمَاءِ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 29] الْآيَةَ. وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الْفَتْحِ: 1] الْآيَةَ. قَالُوا: فَمَا فَضْلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إِبْرَاهِيمَ: 4] الْآيَةَ. وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سَبَأٍ: 28]. وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ: «نَعَمْ، أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ يَعْنِي قَوْلَهُ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 129]. وَبَشَّرَ بِي عِيسَى. وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، فَبَيْنَا أَنَا مَعَ أَخٍ لِي خَلْفَ بُيُوتِنَا نَرْعَى بُهْمًا لَنَا إِذْ جَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ». وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «ثَلَاثَةُ رِجَالٍ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ ثَلْجًا، وَأَخَذَانِي فَشَقَّا بَطْنِي». قَالَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: «مِنْ نَحْرِي إِلَى مِزَاقِ بَطْنِي، ثُمَّ اسْتَخْرَجَا مِنْهُ قَلْبِي، فَشَقَّاهُ، فَاسْتَخْرَجَا مِنْهُ عَلَقَةً سَوْدَاءَ فَطَرَحَاهَا، ثُمَّ غَسَلَا قَلْبِي، وَبَطْنِي بِذَلِكَ الثَّلْجِ حَتَّى أَنْقَيَاهُ». قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «ثُمَّ تَنَاوَلْ أَحَدُهُمَا شَيْئًا فَإِذَا بِخَاتَمٍ فِي يَدِهِ مِنْ نُورٍ يَحَارُ النَّاظِرُ دُونَهُ، فَخَتَمَ بِهِ قَلْبِي، فَامْتَلَأَ إِيمَانًا، وَحِكْمَةً، ثُمَّ أَعَادَهُ مَكَانَهُ وَأَمَرَّ الْآخَرُ يَدَهُ عَلَى مَفْرَقِ صَدْرِي فَالْتَأَمَ». وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: قَلْبٌ وَكِيعٌ، أَيْ سَدِيدٌ، فِيهِ عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ سَمِيعَتَانَ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: زِنْهُ بِعَشَرَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنَنِي فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِأَلْفٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: دَعْهُ عَنْكَ، فَلَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ لَوَزَنَهَا. قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «ثُمَّ ضَمُّونِي إِلَى صُدُورِهِمْ، وَقَبَّلُوا رَأْسِي، وَمَا بَيْنَ عَيْنَيَّ، ثُمَّ قَالُوا: يَا حَبِيبُ، كَمْ تُرَعْ، إِنَّكَ لَوْ تَدْرِي مَا يُرَادُ بِكَ مِنَ الْخَيْرِ لَقَرَّتْ عَيْنَاكَ». وَفِي بَقِيَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِمْ: «مَا أَكْرَمَكَ عَلَى اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ مَعَكَ، وَمَلَائِكَتَهُ». قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «فَمَا هُوَ إِلَّا أَنَّ وَلَّيَا عَنِّي، فَكَأَنَّمَا أَرَى الْأَمْرَ مُعَايَنَةً». وَحَكَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ ، أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ ، وَغَيْرُهُمَا أَنَّ آدَمَ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ قَالَ: [اللَّهُمَّ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي]. وَيُرْوَى: تَقَبَّلْ تَوْبَتِي. فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: [مِنْ أَيْنَ عَرَفْتَ مُحَمَّدًا؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ]. وَيُرْوَى: مُحَمَّدٌ عَبْدِي، وَرَسُولِي، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ أَكْرَمُ خَلْقِكَ عَلَيْكَ، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَغَفَرَ لَهُ. وَهَذَا عِنْدَ قَائِلِهِ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [الْبَقَرَةِ: 37]. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَقَالَ آدَمُ: لَمَّا خَلَقْتَنِي رَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى عَرْشِكَ فَإِذَا فِيهِ مَكْتُوبٌ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَكَ مِمَّنْ جَعَلْتَ اسْمَهُ مَعَ اسْمِكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: وَعِزَّتِي، وَجَلَالِي، إِنَّهُ لَآخِرُ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ، وَلَوْلَاهُ مَا خَلَقْتُكَ. قَالَ: وَكَانَ آدَمُ يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ بِأَبِي الْبَشَرِ. وَرُوِيَ عَنْ سُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ عِبَادَتُهَا كُلُّ دَارٍ فِيهَا أَحْمَدُ، أَوْ مُحَمَّدٌ، إِكْرَامًا مِنْهُمْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى ابْنُ قَانِعٍ الْقَاضِي، عَنْ أَبِي الْحَمْرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ إِذَا عَلَى الْعَرْشِ مَكْتُوبٌ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَيَّدْتُهُ بِعَلِيٍّ». وَفِي التَّفْسِيرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} [الْكَهْفِ: 82]. قَالَ: لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ مَكْتُوبٌ: عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَنْصَبُ! عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ كَيْفَ يَضْحَكُ! عَجَبًا لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا، وَتَقَبَّلَهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا! أَنَا اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، مُحَمَّدٌ عَبْدِي، وَرَسُولِي. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبٌ: إِنِّي أَنَا اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، لَا أُعَذِّبُ مَنْ قَالَهَا. وَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ عَلَى الْحِجَارَةِ الْقَدِيمَةِ مَكْتُوبٌ: مُحَمَّدٌ تَقِيٌّ مُصْلِحٌ، وَسَيِّدٌ أَمِينٌ. وَذَكَرَ السِّمِنْطَارِيُّ أَنَّهُ شَاهَدَ فِي بَعْضِ بِلَادِ خُرَاسَانَ مَوْلُودًا وُلِدَ عَلَى أَحَدِ جَنْبَيْهِ مَكْتُوبٌ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَعَلَى الْآخَرِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَذَكَرَ الْأَخْبَارِيُّونَ أَنَّ بِبِلَادِ الْهِنْدِ، وَرْدًا أَحْمَرَ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ بِالْأَبْيَضِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَلَا لِيَقُمْ مَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ لِكَرَامَةِ اسْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ فِي سَمَاعِهِ، وَابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ، عَنْ مَالِكٍ: سَمِعْتُ أَهْلَ مَكَّةَ يَقُولُونَ: مَا مِنْ بَيْتٍ فِيهِ اسْمُ مُحَمَّدٍ إِلَّا نَمَا وَرُزِقُوا وَرُزِقَ جِيرَانُهُمْ. وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَرَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ مُحَمَّدٌ، وَمُحَمَّدَانِ وَثَلَاثَةٌ». وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى قُلُوبِ الْعِبَادِ، وَاخْتَارَ مِنْهَا قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الْأَحْزَابِ: 53] قَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ «يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْإِيمَانِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَنِي عَلَيْكُمْ تَفْضِيلًا، وَفَضَّلَ نِسَائِي عَلَى نِسَائِكُمْ تَفْضِيلًا..». الْحَدِيثَ.
فِي تَفْضِيلِهِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ كَرَامَةُ الْإِسْرَاءِ مِنَ الْمُنَاجَاةِ. وَالرُّؤْيَةِ وَإِمَامَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُرُوجِ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَمَا رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى: وَمِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِصَّةُ الْإِسْرَاءِ، وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ دَرَجَاتِ الرِّفْعَةِ مِمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ، وَشَرَحَتْهُ صِحَاحُ الْأَخْبَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الْإِسْرَاءِ: 1] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النَّجْمِ: 1]- إِلَى قَوْلِهِ-: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النَّجْمِ: 18]. فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّةِ الْإِسْرَاءِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ هُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ وَجَاءَتْ بِتَفْصِيلِهِ، وَشَرْحِ عَجَائِبِهِ، وَخَوَاصِّ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ رَأَيْنَا أَنْ نُقَدِّمَ أَكْمَلَهَا، وَنُشِيرَ إِلَى زِيَادَةٍ مِنْ غَيْرِهِ يَجِبُ ذِكْرُهَا. [حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ ، وَالْفَقِيهُ أَبُو بَحْرٍ بِسَمَاعِي عَلَيْهِمَا، وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ شُيُوخِنَا، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْعُذْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ]، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرَفِهِ قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبُطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ. ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ: عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا، فَرَحَّبَا بِي، وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَذَكَرَ مِثْلَ الْأَوَّلِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مَرْيَمَ: 57] ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ. ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلَاةً. قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَخَبَرْتُهُمْ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي. فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ. قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَعَالَى، وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُمْ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَتِلْكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً. قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ». قَالَ الْقَاضِي- وَفَّقَهُ اللَّهُ-: جَوَّدَ ثَابِتٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَنَسٍ مَا شَاءَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ عَنْهُ بِأَصْوَبَ مِنْ هَذَا. وَقَدْ خَلَطَ فِيهِ غَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ تَخْلِيطًا كَثِيرًا، لَا سِيَّمَا مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، فَقَدْ ذَكَرَ فِي أَوَّلِهِ مَجِيءَ الْمَلَكِ لَهُ، وَشَقَّ بَطْنِهِ، وَغَسْلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ وَهُوَ صَبِيٌّ، وَقَبْلَ الْوَحْيِ. وَقَدْ قَالَ شَرِيكٌ فِي حَدِيثِهِ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَذِكْرُ قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الْوَحْيِ. وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وَقِيلَ: قَبْلَ هَذَا. وَقَدْ رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ، مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَيْضًا مَجِيءَ جِبْرِيلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ عِنْدَ ظِئْرِهِ، وَشَقَّهُ قَلْبَهُ تِلْكَ الْقِصَّةَ مُفْرَدَةً مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ كَمَا رَوَاهُ النَّاسُ، فَجَوَّدَ فِي الْقِصَّتَيْنِ، وَفِي أَنَّ الْإِسْرَاءَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى كَانَ قِصَّةً، وَاحِدَةً، وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ مِنْ هُنَاكَ، فَأَزَاحَ كُلَّ إِشْكَالٍ أَوْهَمَهُ غَيْرُهُ. وَقَدْ رَوَى يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مَنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً، وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا مِنْ صَدْرِي، ثُمَّ أُطَبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ..». فَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَرَوَى قَتَادَةُ الْحَدِيثَ، بِمِثْلِهِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَفِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَنَقْصٌ، وَخِلَافٌ فِي تَرْتِيبِ الْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ. وَحَدِيثُ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَتْقَنُ، وَأَجْوَدُ. وَقَدْ وَقَعَتْ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، زِيَادَاتٌ نَذْكُرُ مِنْهَا نُكَتًا مُفِيدَةً فِي عَرْضِنَا: مِنْهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ، وَفِيهِ قَوْلُ كُلِّ نَبِيٍّ لَهُ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الصَّالِحِ، إِلَّا آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ فَقَالَا لَهُ: وَالِابْنِ الصَّالِحِ. وَفِيهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ : «ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ بِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ». وَعَنْ أَنَسٍ: «ثُمَّ انْطُلِقَ بِي حَتَّى أَتَيْتُ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ؟ قَالَ: ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ». وَفِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ: «فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ يَعْنِي مُوسَى بَكَى، فَنُودِيَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: رَبِّ، هَذَا غُلَامٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي». وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَحَانَتِ الصَّلَاةُ، فَأَمَمْتُهُمْ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَالْتَفَتُّ فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ». وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَنَزَلَ فَرَبَطَ فَرَسَهُ إِلَى صَخْرَةٍ، فَصَلَّى مَعَ الْمَلَائِكَةِ، فَلَمَّا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ قَالُوا: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ قَالَ: هَذَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ: قَالُوا: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ، وَخَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ، وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ! ثُمَّ لَقُوا أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَثْنَوْا عَلَى رَبِّهِمْ». وَذَكَرَ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ إِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ. ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: «كُلُّكُمْ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ، وَأَنَا أَثْنَى عَلَيَّ رَبِّي. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا، وَنَذِيرًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ الْفُرْقَانَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ. وَجَعَلَ أُمَّتِي خَيْرَ أُمَّةٍ، وَجَعَلَ أُمَّتِي أُمَّةً وَسَطًا، وَجَعَلَ أُمَّتِي هُمُ الْأَوَّلُونَ، وَهُمُ الْآخِرُونَ، وَشَرَحَ لِي صَدْرِي، وَوَضَعَ عَنِّي، وِزْرِي، وَرَفَعَ لِي ذِكْرِي، وَجَعَلَنِي فَاتِحًا، وَخَاتَمًا». فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: بِهَذَا فَضَلَكُمْ مُحَمَّدٌ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَمِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَانْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يَهْبِطُ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا، قَالَ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النَّجْمِ: 16]، قَالَ: فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ». وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ». فَقِيلَ لِي: هَذِهِ السِّدْرَةُ الْمُنْتَهَى يَنْتَهِي إِلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أُمَّتِكَ خَلَا عَلَى سَبِيلِكِ، وَهِيَ السِّدْرَةُ الْمُنْتَهَى، يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى، وَهِيَ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا سَبْعِينَ عَامًا، وَأَنَّ وَرَقَةً مِنْهَا مِظَلَّةُ الْخَلْقِ، فَغَشِيَهَا نُورٌ، وَغَشِيَتْهَا الْمَلَائِكَةُ. قَالَ: فَهُوَ قَوْلُهُ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النَّجْمِ: 16]. فَقَالَ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى- لَهُ: سَلْ. فَقَالَ: إِنَّكَ اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَأَعْطَيْتَهُ مُلْكًا عَظِيمًا. وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَأَعْطَيْتَ دَاوُدَ مُلْكًا عَظِيمًا، وَأَلَنْتَ لَهُ الْحَدِيدَ، وَسَخَّرْتَ لَهُ الْجِبَالَ، وَأَعْطَيْتَ سُلَيْمَانَ مُلْكًا عَظِيمًا، وَسَخَّرْتَ لَهُ الْجِنَّ، وَالْإِنْسَ، وَالشَّيَاطِينَ، وَالرِّيَاحَ، وَأَعْطَيْتَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَعَلَّمْتَ عِيسَى التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، وَجَعَلْتَهُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ، وَالْأَبْرَصَ، وَأَعَذْتَهُ، وَأُمَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِمَا سَبِيلٌ. فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ تَعَالَى: قَدِ اتَّخَذْتُكَ خَلِيلًا وَحَبِيبًا. فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: مُحَمَّدٌ حَبِيبُ الرَّحْمَنِ وَأَرْسَلْتُكَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَجَعَلْتُ أُمَّتَكَ هُمُ الْأَوَّلُونَ، وَهُمُ الْآخِرُونَ، وَجَعَلْتُ أُمَّتَكَ لَا تَجُوزُ لَهُمْ خُطْبَةٌ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّكَ عَبْدِي، وَرَسُولِي، وَجَعَلْتُكَ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ خَلْقًا، وَآخِرَهُمْ بَعْثًا، وَأَعْطَيْتُكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي، وَلِمْ أُعْطِهَا نَبِيًّا قَبْلَكَ، وَأَعْطَيْتُكَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ عَرْشِي لَمْ أُعْطِهَا نَبِيًّا قَبْلَكَ، وَجَعَلْتُكَ فَاتِحًا، وَخَاتَمًا». وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ: فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنْ أُمَّتِهِ الْمُقْحِمَاتُ. وَقَالَ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النَّجْمِ: 11]: رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ. وَفِي حَدِيثِ شَرِيكٍ أَنَّهُ رَأَى مُوسَى فِي السَّابِعَةِ قَالَ: بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ. قَالَ: ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ مُوسَى: لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالْأَنْبِيَاءِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَعَنْ أَنَسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا أَنَا قَاعِدٌ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ دَخَلَ جِبْرِيلُ، فَوَكَزَ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَقُمْتُ إِلَى شَجَرَةٍ فِيهَا مِثْلُ وَكْرَيِ الطَّائِرِ، فَقَعَدَ فِي وَاحِدَةٍ، وَقَعَدْتُ فِي الْأُخْرَى، فَنِمْتُ حَتَّى سَدَّتِ الْخَافِقَيْنِ. وَلَوْ شِئْتُ لَمَسْتُ السَّمَاءَ، وَأَنَا أُقَلِّبُ طَرْفِي وَنَظَرْتُ جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ حِلْسٌ لَاطِئٌ فَعَرَفْتُ فَضْلَ عِلْمِهِ بِاللَّهِ عَلَيَّ، وَفَتَحَ لِي بَابَ السَّمَاءِ، وَرَأَيْتُ النُّورَ الْأَعْظَمَ، وَلَطَّ دُونِي الْحِجَابُ، وَفَرَجَهُ الدُّرُّ، وَالْيَاقُوتُ. ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا شَاءَ أَنْ يُوحِيَ». وَذَكَرَ الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُعَلِّمَ رَسُولَهُ الْأَذَانَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ، فَذَهَبَ يَرْكَبُهَا، فَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا جِبْرِيلُ: اسْكُنِي، فَوَاللَّهِ مَا رَكِبَكِ عَبْدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَكِبَهَا حَتَّى أَتَى إِلَى الْحِجَابِ الَّذِي يَلِي الرَّحْمَنَ تَعَالَى، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ مَلَكٌ مِنَ الْحِجَابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنِّي لَأَقْرَبُ الْخَلْقِ مَكَانًا، وَإِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا رَأَيْتُهُ مُنْذُ خُلِقْتُ قَبْلَ سَاعَتِي هَذِهِ. فَقَالَ الْمَلَكُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقِيلَ لَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: صَدَقَ عَبْدِي، أَنَا أَكْبَرُ أَنَا أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ الْمَلَكُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقِيلَ لَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: صَدَقَ عَبْدِي، أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا. وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا فِي بَقِيَّةِ الْأَذَانِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. وَقَالَ: ثُمَّ أَخَذَ الْمَلَكُ بِيَدِ مُحَمَّدٍ، فَقَدَّمَهُ فَأَمَّ أَهْلَ السَّمَاءِ فِيهِمْ آدَمُ، وَنُوحٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَاوِيهِ: أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرَفَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضِ. قَالَ الْقَاضِي- وَفَّقَهُ اللَّهُ-: مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ الْحِجَابِ فَهُوَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ لَا فِي حَقِّ الْخَالِقِ، فَهُمُ الْمَحْجُوبُونَ، وَالْبَارِي جَلَّ اسْمُهُ مُنَزَّهٌ عَمَّا يَحْجُبُهُ، إِذِ الْحُجُبُ إِنَّمَا تُحِيطُ بِمُقَدَّرٍ مَحْسُوسٍ؛ وَلَكِنْ حُجُبُهُ عَلَى أَبْصَارِ خَلْقِهِ وَبَصَائِرِهِمْ وَإِدْرَاكَاتِهِمْ بِمَا شَاءَ، وَكَيْفَ شَاءَ، وَمَتَى شَاءَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 15]. فَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «الْحِجَابُ» وَإِذْ خَرَجَ مَلَكٌ مِنَ الْحِجَابِ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حِجَابٌ حَجَبَ بِهِ مَنْ وَرَاءَهُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ عَنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا دُونَهُ مِنْ سُلْطَانِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَعَجَائِبِ مَلَكُوتِهِ، وَجَبَرُوتِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُ جِبْرِيلَ عَنِ الْمَلَكِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ وَرَائِهِ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا رَأَيْتُهُ مُنْذُ خُلِقْتُ قَبْلَ سَاعَتِي هَذِهِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحِجَابَ لَمْ يَخْتَصَّ بِالذَّاتِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ كَعْبٍ فِي تَفْسِيرِ: سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى قَالَ: إِلَيْهَا يَنْتَهِي عِلْمُ الْمَلَائِكَةِ، وَعِنْدَهَا يَجِدُونَ أَمْرَ اللَّهِ، لَا يُجَاوِزُهَا عِلْمُهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الَّذِي يَلِي الرَّحْمَنَ فَيُحْمَلُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ يَلِي عَرْشَ الرَّحْمَنِ أَوْ أَمْرًا مَا مِنْ عَظِيمِ آيَاتِهِ، أَوْ مَبَادِئِ حَقَائِقِ مَعَارِفِهِ، مِمَّا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82]، أَيْ أَهْلَهَا. وَقَوْلُهُ: فَقِيلَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: صَدَقَ عَبْدِي، أَنَا أَكْبَرُ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ سَمِعَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ كَلَامَ اللَّهِ، وَلَكِنْ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، كَمَا قَالَ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشُّورَى: 51]، أَيْ، وَهُوَ لَا يَرَاهُ، حَجَبَ بَصَرَهُ عَنْ رُؤْيَتِهِ. فَإِنْ صَحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْطِنِ بَعْدَ هَذَا أَوْ قَبْلَهُ، رَفَعَ الْحِجَابَ عَنْ بَصَرِهِ حَتَّى رَآهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ السَّلَفُ، وَالْعُلَمَاءُ: هَلْ كَانَ إِسْرَاؤُهُ بِرُوحِهِ أَوْ جَسَدِهِ؟ عَلَى ثَلَاثِ مَقَالَاتٍ: قَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ إِسْرَاءٌ بِالرُّوحِ، وَأَنَّهُ رُؤْيَا مَنَامٍ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ وَوَحْيٌ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُعَاوِيَةُ , وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}. وَمَا حَكَوْا عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: مَا فَقَدْتُ جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ». وَقَوْلُ أَنَسٍ: وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ... وَذَكَرَ الْقِصَّةَ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: «فَاسْتَيْقَظْتُ، وَأَنَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ». وَذَهَبَ مُعْظَمُ السَّلَفِ، وَالْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنَّهُ إِسْرَاءٌ بِالْجَسَدِ، وَفِي الْيَقَظَةِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَأَنَسٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَعُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأَبِي حَبَّةَ الْبَدْرِيِّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمَسْرُوقٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ دَلِيلُ قَوْلِ عَائِشَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُحَدِّثِينَ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْمُفَسِّرِينَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَانَ الْإِسْرَاءُ بِالْجَسَدِ يَقَظَةً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِلَى السَّمَاءِ بِالرُّوحِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الْإِسْرَاءِ: 1]، فَجَعَلَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى غَايَةَ الْإِسْرَاءِ الَّذِي وَقَعَ التَّعَجُّبُ فِيهِ بِعَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالتَّمَدُّحِ بِتَشْرِيفِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ، وَإِظْهَارِ الْكَرَامَةِ لَهُ بِالْإِسْرَاءِ إِلَيْهِ. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ إِلَى زَائِدٍ عَلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَذَكَرَهُ، فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي الْمَدْحِ. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْفِرْقَتَانِ: هَلْ صَلَّى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَمْ لَا؟ فَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَغَيْرِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ فِيهِ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زَالَا عَنْ ظَهْرِ الْبُرَاقِ حَتَّى رَجَعَا. قَالَ الْقَاضِي وَفَّقَهُ اللَّهُ: وَالْحَقُّ مِنْ هَذَا وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ إِسْرَاءٌ بِالْجَسَدِ وَالرُّوحِ فِي الْقِصَّةِ كُلِّهَا، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْآيَةُ، وَصَحِيحُ الْأَخْبَارِ وَالِاعْتِبَارُ، وَلَا يَعْدِلُ عَنِ الظَّاهِرِ، وَالْحَقِيقَةِ إِلَى التَّأْوِيلِ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِحَالَةِ، وَلَيْسَ فِي الْإِسْرَاءِ بِجَسَدِهِ، وَحَالِ يَقَظَتِهِ اسْتِحَالَةٌ، إِذْ لَوْ كَانَ مَنَامًا لَقَالَ: بِرُوحِ عَبْدِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: {بِعَبْدِهِ}. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النَّجْمِ: 17]، وَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمَا كَانَتْ فِيهِ آيَةٌ، وَلَا مُعْجِزَةٌ، وَلَمَا اسْتَبْعَدَهُ الْكُفَّارُ، وَلَا كَذَّبُوهُ فِيهِ، وَلَا ارْتَدَّ بِهِ ضُعَفَاءُ مَنْ أَسْلَمَ، وَافْتُتِنُوا بِهِ، إِذْ مِثْلُ هَذَا مِنَ الْمَنَامَاتِ لَا يُنْكَرُ، بَلْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ خَبَرَهُ إِنَّمَا كَانَ عَنْ جِسْمِهِ، وَحَالِ يَقَظَتِهِ، إِلَى مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ صَلَاتِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ أَوْ فِي السَّمَاءِ عَلَى مَا رَوَى غَيْرُهُ، وَذِكْرِ مَجِيءِ جِبْرِيلَ لَهُ بِالْبُرَاقِ وَخَبَرِ الْمِعْرَاجِ، وَاسْتِفْتَاحِ السَّمَاءِ، فَيُقَالُ: مَنْ مَعَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ، وَلِقَائِهِ الْأَنْبِيَاءَ فِيهَا، وَخَبَرِهِمْ مَعَهُ، وَتَرْحِيبِهِمْ بِهِ، وَشَأْنِهِ فِي فَرْضِ الصَّلَاةِ، وَمُرَاجَعَتِهِ مَعَ مُوسَى فِي ذَلِكَ. وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ: «فَأَخَذَ يَعْنِي جِبْرِيلُ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ..». إِلَى قَوْلِهِ: «ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ بِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ» وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَأَنَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَرَأَى فِيهَا مَا ذَكَرَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ رَآهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا رُؤْيَا مَنَامٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ فِيهِ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَهَمَزَنِي بِعَقِبِهِ، فَقُمْتُ فَجَلَسَتْ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَعُدْتُ لِمَضْجَعِي ذَكَرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: فَأَخَذَ بِعَضُدَيَّ فَجَرَّنِي إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا بِدَابَّةٍ». وَذَكَرَ خَبَرَ الْبُرَاقِ. وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ: مَا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ فِي بَيْتِي تِلْكَ اللَّيْلَةَ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، وَنَامَ بَيْنَنَا، فَلَمَّا كَانَ قُبَيْلَ الْفَجْرِ أَهَبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ، وَصَلَّيْنَا قَالَ: «يَا أُمَّ هَانِئٍ، لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَكُمُ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ كَمَا رَأَيْتِ بِهَذَا الْوَادِي، ثُمَّ جِئْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، ثُمَّ صَلَّيْتُ الْغَدَاةَ مَعَكُمُ الْآنَ كَمَا تَرَوْنَ». وَهَذَا بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ ( بِجِسْمِهِ ). وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ مِنْ رِوَايَةِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ: طَلَبْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْبَارِحَةَ فِي مَكَانِكَ فَلَمْ أَجِدْكَ. فَأَجَابَهُ: «إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَمَلَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى». وَعَنْ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَّيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلْتُ الصَّخْرَةَ فَإِذَا بِمَلَكٍ قَائِمٍ مَعَهُ آنِيَةٌ ثَلَاثٌ.». وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَهَذِهِ التَّصْرِيحَاتُ ظَاهِرَةٌ غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ، فَتُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا. وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ , عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، فَشَرَحَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ... إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي». وَعَنْ أَنَسٍ: «أَتَيْتُ فَانْطَلَقَ بِي إِلَى زَمْزَمَ، فَشَرَحَ عَنْ صَدْرِي». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ، وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ». وَنَحْوُهُ عَنْ جَابِرٍ. وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى خَدِيجَةَ، وَمَا تَحَوَّلَتْ عَنْ جَانِبِهَا».
فِي إِبْطَالِ حُجَجِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَوْمٌ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الْإِسْرَاءِ: 60]، فَسَمَّاهَا رُؤْيَا. قُلْنَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الْإِسْرَاءِ: 1] يَرُدُّهُ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي النَّوْمِ: أَسْرَى. وَقَوْلُهُ: {فِتْنَةً لِلنَّاسِ}. يُؤَيِّدُ أَنَّهَا رُؤْيَا عَيْنٍ وَإِسْرَاءٌ بِشَخْصٍ؛ إِذْ لَيْسَ فِي الْحُلْمِ فِتْنَةٌ. وَلَا يُكَذِّبُ بِهِ أَحَدٌ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرَى مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ مِنَ الْكَوْنِ فِي سَاعَةٍ، وَاحِدَةٍ فِي أَقْطَارٍ مُتَبَايِنَةٍ. عَلَى أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَا وَقَعَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ قَدْ سَمَّاهَا فِي الْحَدِيثِ مَنَامًا. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: بَيْنَ النَّائِمِ، وَالْيَقْظَانِ. وَقَوْلُهُ أَيْضًا: وَهُوَ نَائِمٌ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ. فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، إِذْ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ أَوَّلَ وُصُولِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ كَانَ وَهُوَ نَائِمٌ، أَوْ أَوَّلَ حَمْلِهِ، وَالْإِسْرَاءِ بِهِ وَهُوَ نَائِمٌ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا فِي الْقِصَّةِ كُلِّهَا إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ: ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ، وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَعَلَّ قَوْلَهُ: اسْتَيْقَظْتُ بِمَعْنَى أَصْبَحْتُ، أَوِ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمٍ آخَرَ بَعْدَ وُصُولِهِ بَيْتَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ مَسْرَاهُ لَمْ يَكُنْ طُولَ لَيْلِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي بَعْضِهِ. وَقَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ: اسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِمَا كَانَ غَمَرَهُ مِنْ عَجَائِبِ مَا طَالَعَ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَخَامَرَ بَاطِنَهُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَمَا رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، فَلَمْ يَسْتَفِقْ، وَيَرْجِعْ إِلَى حَالِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَّا وَهُوَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنْ يَكُونَ نَوْمُهُ، وَاسْتِيقَاظُهُ حَقِيقَةً عَلَى مُقْتَضَى لَفْظِهِ، وَلَكِنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ، وَقَلْبُهُ حَاضِرٌ، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ، تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ، وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ. وَقَدْ مَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْإِشَارَاتِ إِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا. قَالَ: تَغْمِيضُ عَيْنَيْهِ لِئَلَّا يَشْغَلَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا يَصِحُّ هَذَا أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ صَلَاتِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَلَعَلَّهُ كَانَتْ لَهُ فِي هَذَا الْإِسْرَاءِ حَالَاتٌ. وَوَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنْ يُعَبِّرَ بِالنَّوْمِ هَاهُنَا عَنْ هَيْئَةِ النَّائِمِ مِنَ الِاضْطِجَاعِ، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ هَمَّامٍ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، وَرُبَّمَا قَالَ: مُضْطَجِعٌ. وَفِي رِوَايَةِ هُدْبَةَ، عَنْهُ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحَطِيمِ، وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعٌ» وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: «بَيْنَ النَّائِمِ، وَالْيَقْظَانِ». فَيَكُونُ سَمَّى هَيْئَتَهُ بِالنَّوْمِ لَمَّا كَانَتْ هَيْئَةُ النَّائِمِ غَالِبًا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ: مِنَ النَّوْمِ، وَذِكْرِ شَقِّ الْبَطْنِ، وَدُنُوِّ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ الْوَاقِعَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ، فَهِيَ مُنْكَرَةٌ مِنْ رِوَايَتِهِ، إِذْ شَقُّ الْبَطْنِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إِنَّمَا كَانَ فِي صِغَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَالْإِسْرَاءُ بِإِجْمَاعٍ كَانَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ، فَهَذَا كُلُّهُ يُوَهِّنُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ، مَعَ أَنَّ أَنَسًا قَدْ بَيَّنَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ أَنَّهُ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ مَرَّةً عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ : لَعَلَّهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَلَى الشَّكِّ. وَقَالَ مَرَّةً: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ. وَأَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ: مَا فَقَدْتُ جَسَدَهُ، فَعَائِشَةُ لَمْ تُحَدِّثْ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حِينَئِذٍ زَوْجَهُ، وَلَا فِي سِنِّ مَنْ يَضْبُطُ، وَلَعَلَّهَا لَمْ تَكُنْ وُلِدَتْ بَعْدُ، عَلَى الْخِلَافِ فِي الْإِسْرَاءِ مَتَى كَانَ فَإِنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ بَعْدَ الْمَبْعَثِ بِعَامٍ وَنِصْفٍ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ فِي الْهِجْرَةِ بِنْتُ نَحْوِ ثَمَانِيَةِ أَعْوَامٍ. وَقَدْ قِيلَ: كَانَ الْإِسْرَاءُ لِخَمْسٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ: قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامٍ. وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ لِخَمْسٍ. وَالْحُجَّةُ لِذَلِكَ تَطُولُ، وَلَيْسَتْ مِنْ غَرَضِنَا، فَإِذَا لَمْ تُشَاهِدْ ذَلِكَ عَائِشَةُ دَلَّ أَنَّهَا حَدَّثَتْ بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِهَا، فَلَمْ يَرْجَحْ خَبَرُهَا عَلَى خَبَرِ غَيْرِهَا، وَغَيْرُهَا يَقُولُ خِلَافَهُ مِمَّا وَقَعَ نَصًّا فِي حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ، وَغَيْرِهِ. وَأَيْضًا فَلَيْسَ حَدِيثُ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- بِالثَّابِتِ، وَالْأَحَادِيثُ الْأُخَرُ أَثْبَتُ، وَلَسْنَا نَعْنِي حَدِيثَ أُمِّ هَانِئٍ، وَمَا ذُكِرَتْ فِيهِ خَدِيجَةُ. وَأَيْضًا فَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: [مَا فَقَدْتُ]، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ. وَكُلُّ هَذَا يُوَهِّنُهُ، بَلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ صَحِيحُ قَوْلِهَا: إِنَّهُ بِجَسَدِهِ، لِإِنْكَارِهَا أَنْ تَكُونَ رُؤْيَاهُ لِرَبِّهِ رُؤْيَا عَيْنٍ، وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهَا مَنَامًا لَمْ تُنْكِرْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النَّجْمِ: 11] فَقَدْ جَعَلَ مَا رَآهُ لِلْقَلْبِ، وَهُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رُؤْيَا نَوْمٍ، وَوَحْيٌ، لَا مُشَاهَدَةُ عَيْنٍ، وَحِسٌّ. قُلْنَا: يُقَابِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النَّجْمِ: 17] فَقَدْ أَضَافَ الْأَمْرَ لِلْبَصَرِ. وَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ – تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النَّجْمُ: 11]، أَيْ لَمْ يُوهِمِ الْقَلْبُ الْعَيْنَ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ، بَلْ صَدَّقَ رُؤْيَتَهَا. وَقِيلَ: مَا أَنْكَرَ قَلْبُهُ مَا رَأَتْهُ عَيْنُهُ.
وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبِّهِ- جَلَّ وَعَزَّ- فَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا، فَأَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-. [حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ سِرَاجُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحَافِظُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَّابٍ الْفَقِيهُ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْقَاضِي يُونُسُ بْنُ مُغِيثٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الصُّقَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَجَدِّهِ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ آدَمَ ، حَدَّثَنَا ، وَكِيعٌ ، عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ ، عَنْ عَامِرٍ] عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ. ثَلَاثٌ مِنْ حَدَّثَكَ بِهِنَّ فَقَدْ كَذَبَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الْأَنْعَامِ: 103]، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ بِقَوْلِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا رَأَى جِبْرِيلَ. وَاخْتُلِفَ عَنْهُ وَقَالَ بِإِنْكَارِ هَذَا وَامْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ. وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْهُ أَنَّهُ رَآهُ بِقَلْبِهِ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ ، عَنْهُ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يَسْأَلُهُ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَالْأَشْهَرُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مَنْ طُرُقٍ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَصَّ مُوسَى بِالْكَلَامِ، وَإِبْرَاهِيمَ بِالْخِلَّةِ، وَمُحَمَّدًا بِالرُّؤْيَةِ، وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النَّجْمِ: 11- 13]. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ كَلَامَهُ، وَرُؤْيَتَهُ بَيْنَ مُوسَى، وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَآهُ مُحَمَّدٌ مَرَّتَيْنِ، وَكَلَّمَهُ مُوسَى مَرَّتَيْنِ. وَحَكَى أَبُو الْفَتْحِ الرَّازِيُّ ، وَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ الْحِكَايَةَ عَنْ كَعْبٍ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: اجْتَمَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَعْبٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا نَحْنُ بَنُو هَاشِمٍ فَنَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ، فَكَبَّرَ كَعْبٌ حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ رُؤْيَتَهُ، وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى، فَكَلَّمَهُ مُوسَى وَرَآهُ مُحَمَّدٌ بِقَلْبِهِ. وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ. وَحَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَرَبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: «رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي، وَلَمْ أَرَهُ بِعَيْنِي». وَرَوَى مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ، عَنْ مُعَاذٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَبِّي... وَذَكَرَ كَلِمَةً، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى الْحَدِيثَ. وَحَكَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ. وَحَكَاهُ أَبُو عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ. وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَحَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ مَرْوَانَ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ. هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَحَكَى النَّقَّاشُ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَقُولُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِعَيْنِهِ رَآهُ رَآهُ حَتَّى انْقَطَعَ نَفَسُهُ يَعْنِي نَفَسُ أَحْمَدَ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ : قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : رَآهُ بِقَلْبِهِ، وَجَبُنَ عَنِ الْقَوْلِ بِرُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالْأَبْصَارِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : لَا أَقُولُ رَآهُ، وَلَا لَمْ يَرَهُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، فَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ. وَعَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ: رَأَى جِبْرِيلَ. وَحَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: رَآهُ . وَعَنِ ابْنِ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشَّرْحِ: 1] قَالَ: شَرَحَ صَدْرَهُ لِلرُّؤْيَةِ، وَشَرَحَ صَدْرَ مُوسَى لِلْكَلَامِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ رَأَى اللَّهَ تَعَالَى بِبَصَرِهِ، وَعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وَقَالَ: كُلُّ آيَةٍ أُوتِيَهَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فَقَدْ أُوتِيَ مِثْلَهَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخُصَّ مِنْ بَيْنِهِمْ بِتَفْضِيلِ الرُّؤْيَةِ. وَوَقَفَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِي هَذَا وَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ، وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ: وَالْحَقُّ الَّذِي لَا امْتِرَاءَ فِيهِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا جَائِزَةٌ عَقْلًا، وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا فِي الدُّنْيَا سُؤَالُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهَا. وَمُحَالٌ أَنْ يَجْهَلَ نَبِيٌّ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ، وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، بَلْ لَمْ يَسْأَلْ إِلَّا جَائِزًا غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ، وَلَكِنَّ وُقُوعَهُ، وَمُشَاهَدَتَهُ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ تَرَانِي} [الْأَعْرَافِ: 142]، أَيْ لَنْ تُطِيقَ، وَلَا تَحْتَمِلَ رُؤْيَتِي، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُ مَثَلًا مِمَّا هُوَ أَقْوَى مِنْ بِنْيَةِ مُوسَى، وَأَثْبَتُ، وَهُوَ الْجَبَلُ. وَكُلُّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ مَا يُحِيلُ رُؤْيَتَهُ فِي الدُّنْيَا، بَلْ فِيهِ جَوَازُهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَ فِي الشَّرْحِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى اسْتِحَالَتِهَا، وَلَا امْتِنَاعِهَا، إِذْ كَلُّ مَوْجُودٍ فَرُؤْيَتُهُ جَائِزَةٌ غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ. وَلَا حُجَّةَ لِمَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى مَنْعِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الْأَنْعَامِ: 103]، لِاخْتِلَافِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْآيَةِ، وَإِذْ لَيْسَ يَقْتَضِي قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي الدُّنْيَا الِاسْتِحَالَةَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ نَفْسِهَا عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ، وَعَدَمِ اسْتِحَالَتِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ. وَقَدْ قِيلَ: لَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُ الْكُفَّارِ، وَقِيلَ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الْأَنْعَامِ: 103] لَا تُحِيطُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَدْ قِيلَ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَإِنَّمَا يُدْرِكُهُ الْمُبْصِرُونَ. وَكُلُّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ لَا تَقْتَضِي مَنْعَ الرُّؤْيَةِ، وَلَا اسْتِحَالَتَهَا. وَكَذَلِكَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَرَانِي} [الْأَعْرَافِ: 142]. وَقَوْلِهِ: {تُبْتُ إِلَيْكَ} [الْأَعْرَافِ: 143] لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْعُمُومِ، وَلِأَنَّ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهَا: لَنْ تَرَانِي فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ تَأْوِيلٌ. وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِيهِ نَصُّ الِامْتِنَاعِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ فِي حَقِّ مُوسَى، وَحَيْثُ تَتَطَرَّقُ التَّأْوِيلَاتُ، وَتَتَسَلَّطُ الِاحْتِمَالَاتُ، فَلَيْسَ لِلْقَطْعِ إِلَيْهِ سَبِيلٌ. وَقَوْلُهُ: {تُبْتُ إِلَيْكَ} أَيْ مِنْ سُؤَالِي مَا لَمْ تُقَدِّرْهُ لِي. وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ فِي قَوْلِهِ: {لَنْ تَرَانِي} أَيْ لَيْسَ لِبَشَرٍ أَنْ يُطِيقَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ مَنْ نَظَرَ إِلَيَّ مَاتَ. وَقَدْ رَأَيْتُ لِبَعْضِ السَّلَفِ، وَالْمُتَأَخِّرِينَ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا مُمْتَنِعَةٌ، لِضَعْفِ تَرْكِيبِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَقُوَاهُمْ وَكَوْنِهَا مُتَغَيِّرَةً غَرَضًا لِلْآفَاتِ، وَالْفَنَاءِ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ، وَرُكِّبُوا تَرْكِيبًا آخَرَ، وَرُزِقُوا قُوًى ثَابِتَةً بَاقِيَةً، وَأَتَمَّ أَنْوَارَ أَبْصَارِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ قَوُوا بِهَا عَلَى الرُّؤْيَةِ. وَقَدْ رَأَيْتُ نَحْوَ هَذَا لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ-، قَالَ: لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ بَاقٍ، وَلَا يُرَى الْبَاقِي بِالْفَانِي، فَإِذَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ، وَرُزِقُوا أَبْصَارًا بَاقِيَةً رُئِيَ الْبَاقِي بِالْبَاقِي. وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ مَلِيحٌ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِحَالَةِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ ضَعْفُ الْقُدْرَةِ، فَإِذَا قَوَّى اللَّهُ تَعَالَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَقْدَرَهُ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الرُّؤْيَةِ لَمْ تَمْتَنِعْ فِي حَقِّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذُكِرَ فِي قُوَّةِ بَصَرِ مُوسَى، وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنُفُوذِ إِدْرَاكِهَا بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ مَنَحَهَا لِإِدْرَاكِ مَا أَدْرَكَاهُ، وَرُؤْيَةِ مَا رَأَيَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي أَثْنَاءِ أَجْوِبَتِهِ عَنِ الْآيَتَيْنِ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى اللَّهَ، فَلِذَلِكَ خَرَّ صَعِقًا، وَأَنَّ الْجَبَلَ رَأَى رَبَّهُ فَصَارَ دَكًّا بِإِدْرَاكِ خَلْقِهِ اللَّهَ لَهُ، وَاسْتَنْبَطَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الْأَعْرَافِ: 143]. ثُمَّ قَالَ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الْأَعْرَافِ: 143]. وَتَجَلِّيهِ لِلْجَبَلِ هُوَ ظُهُورُهُ لَهُ حَتَّى رَآهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: شَغَلَهُ بِالْجَبَلِ حَتَّى تَجَلَّى، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَاتَ صَعِقًا بِلَا إِفَاقَةٍ. وَقَوْلُهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى رَآهُ. وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْجَبَلِ أَنَّهُ رَآهُ، وَبِرُؤْيَةِ الْجَبَلِ لَهُ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِرُؤْيَةِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّنَا لَهُ، إِذْ جَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَازِ. وَلَا مِرْيَةَ فِي الْجَوَازِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَاتِ نَصٌّ بِالْمَنْعِ. وَأَمَّا وُجُوبُهُ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ فِيهِ قَاطِعٌ أَيْضًا، وَلَا نَصٌّ إِذِ الْمُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى آيَتَيِ [النَّجْمِ]، وَالتَّنَازُعُ فِيهِمَا مَأْثُورٌ، وَالِاحْتِمَالُ لَهُمَا مُمْكِنٌ، وَلَا أَثَرَ قَاطِعٌ مُتَوَاتِرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ خَبَرٌ عَنِ اعْتِقَادِهِ لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِاعْتِقَادِ مُضَمَّنِهِ. وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَحَدِيثُ مُعَاذٍ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ، وَهُوَ مُضْطَرِبُ الْإِسْنَادِ، وَالْمَتْنِ. وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ مُخْتَلِفٌ مُحْتَمَلٌ مُشْكِلٌ. فَرُوِيَ: [نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ]. وَحَكَى بَعْضُ شُيُوخِنَا أَنَّهُ رُوِيَ [نُورَانِيٌّ أَرَاهُ]. وَفِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ: سَأَلْتُهُ، فَقَالَ: [رَأَيْتُ نُورًا]، وَلَيْسَ يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ، فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحَ رَأَيْتُ نُورًا فَهُوَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ اللَّهَ، وَإِنَّمَا رَأَى نُورًا مَنَعَهُ، وَحَجَبَهُ عَنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ. وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ قَوْلُهُ: [نُورَانِيٌّ أَرَاهُ] أَيْ كَيْفَ أَرَاهُ مَعَ حِجَابِ النُّورِ الْمُغَشِّي لِلْبَصَرِ، وَهَذَا مِثْلُ بَاقِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «حِجَابُهُ النُّورُ». وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «لَمْ أَرَهُ بِعَيْنِي، وَلَكِنْ رَأَيْتُهُ بِقَلْبِي مَرَّتَيْنِ، وَتَلَا: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النَّجْمِ: 8]» وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْإِدْرَاكِ الَّذِي فِي الْبَصَرِ فِي الْقَلْبِ، أَوْ كَيْفَ شَاءَ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ. فَإِنْ وَرَدَ حَدِيثٌ نَصٌّ بَيِّنٌ فِي الْبَابِ اعْتُقِدَ وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، إِذْ لَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ، وَلَا مَانِعَ قَطْعِيٌّ يَرُدُّهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ مُنَاجَاتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامِهِ مَعَهُ بِقَوْلِهِ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النَّجْمِ: 11] إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَحَادِيثُ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُوحِيَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جِبْرِيلَ، وَجِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا شُذُوذًا مِنْهُمْ، فَذُكِرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ ، قَالَ: أَوْحَى إِلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَنَحْوَهُ عَنِ الْوَاسِطِيِّ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَلَّمَ رَبَّهُ فِي الْإِسْرَاءِ. وَحُكِيَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ ، وَحَكَوْهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَنْكَرَهُ آخَرُونَ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «{دَنَا فَتَدَلَّى} قَالَ: فَارَقَنِي جِبْرِيلُ، وَانْقَطَعَتِ الْأَصْوَاتُ عَنِّي، فَسَمِعْتُ كَلَامَ رَبِّي، وَهُوَ: يَقُولُ لِيَهْدَأْ رَوْعُكَ يَا مُحَمَّدُ، ادْنُ، ادْنُ». وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْإِسْرَاءِ نَحْوٌ مِنْهُ. وَقَدِ احْتَجُّوا فِي هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشُّورَى: 51]، فَقَالُوا: هِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَتَكْلِيمِ مُوسَى، وَبِإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ كَحَالِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَكْثَرُ أَحْوَالِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَحْيًا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ تَقْسِيمِ الْكَلَامِ إِلَّا الْمُشَافَهَةُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ. وَقَدْ قِيلَ: الْوَحْيُ هُنَا: هُوَ مَا يُلْقِيهِ فِي قَلْبِ النَّبِيِّ دُونَ، وَاسِطَةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ ، عَنْ عَلِيٍّ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مَا هُوَ أَوْضَحُ فِي سَمَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَلَامِ اللَّهِ مِنَ الْآيَةِ: فَذَكَرَ فِيهِ: «فَقَالَ الْمَلَكُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. اللَّهُ أَكْبَرُ فَقِيلَ لِي مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: صَدَقَ عَبْدِي، أَنَا أَكْبَرُ، أَنَا أَكْبَرُ». وَقَالَ فِي سَائِرِ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَيَجِيءُ الْكَلَامُ فِي مُشْكِلِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْفَصْلِ بَعْدَ هَذَا مَعَ مَا يُشْبِهُهُ. وَفِي أَوَّلِ فَصْلٍ مِنَ الْبَابِ مِنْهُ. وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنِ اخْتَصَّهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، جَائِزٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا، وَلَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ قَاطِعٌ يَمْنَعُهُ، فَإِنْ صَحَّ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ اعْتُمِدَ عَلَيْهِ، وَكَلَامُهُ تَعَالَى لِمُوسَى كَائِنٌ حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ، نَصَّ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ، وَأَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ دَلَالَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَرَفْعِ مَكَانِهِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بِسَبَبِ كَلَامِهِ. وَرَفَعَ مُحَمَّدًا فَوْقَ هَذَا كُلِّهِ حَتَّى بَلَغَ مُسْتَوًى وَسَمِعَ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ، فَكَيْفَ يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّ هَذَا أَوْ يَبْعُدُ سَمَاعُ الْكَلَامِ، فَسُبْحَانَ مَنْ خَصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ!.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ مِنَ الدُّنُوِّ، وَالْقُرْبِ مِنْ قَوْلِهِ: {دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النَّجْمِ: 8] فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الدُّنُوَّ، وَالتَّدَلِّيَ مُنْقَسِمٌ مَا بَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَجِبْرِيلَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، أَوْ مُخْتَصٌّ بِأَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ، أَوْ مِنَ السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى. قَالَ الرَّازِيُّ : وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ مُحَمَّدٌ دَنَا فَتَدَلَّى مِنْ رَبِّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى دَنَا قَرُبَ، وَتَدَلَّى زَادَ فِي الْقُرْبِ، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى، وَاحِدٍ، أَيْ قَرُبَ. وَحَكَى مَكِّيٌّ ، وَالْمَاوَرْدِيُّ - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : هُوَ الرَّبُّ دَنَا مِنْ مُحَمَّدٍ، فَتَدَلَّى إِلَيْهِ، أَيْ أَمَرَهُ، وَحَكَمَهُ. وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ: دَنَا مِنْ عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَدَلَّى، فَقَرُبَ مِنْهُ، فَأَرَاهُ مَا شَاءَ أَنْ يُرِيَهُ مِنْ قُدْرَتِهِ، وَعَظَمَتِهِ. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ مُقَدَّمٌ، وَمُؤَخَّرٌ: تَدَلَّى الرَّفْرَفُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ رُفِعَ فَدَنَا مِنْ رَبِّهِ. قَالَ: «فَارَقَنِي جِبْرِيلُ، وَانْقَطَعَتْ عَنِّي الْأَصْوَاتُ، وَسَمِعْتُ كَلَامَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ». وَعَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ : «عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى» وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ، فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَيْهِ بِمَا شَاءَ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً... وَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ : هُوَ مُحَمَّدٌ دَنَا مِنْ رَبِّهِ، فَكَانَ كَقَابَ قَوْسَيْنِ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ : أَدْنَاهُ رَبُّهُ مِنْهُ حَتَّى كَانَ مِنْهُ كَقَابَ قَوْسَيْنِ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ : وَالدُّنُوُّ مِنَ اللَّهِ لَا حَدَّ لَهُ، وَمِنَ الْعِبَادِ بِالْحُدُودِ. وَقَالَ أَيْضًا: انْقَطَعَتِ الْكَيْفِيَّةُ عَنِ الدُّنُوِّ، أَلَا تَرَى كَيْفَ حَجَبَ جِبْرِيلُ عَنْ دُنُوِّهِ، وَدَنَا مُحَمَّدٌ إِلَى مَا أَوْدَعَ قَلْبَهُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَالْإِيمَانِ فَتَدَلَّى بِسُكُونِ قَلْبِهِ إِلَى مَا أَدْنَاهُ، وَزَالَ عَنْ قَلْبِهِ الشَّكُّ، وَالِارْتِيَابُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ -: اعْلَمْ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ إِضَافَةِ الدُّنُوِّ، وَالْقُرْبِ هُنَا مِنَ اللَّهِ، أَوْ إِلَى اللَّهِ- فَلَيْسَ بِدُنُوِّ مَكَانٍ وَلَا قُرْبِ مَدًى، بَلْ كَمَا ذَكَرْنَا- عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ : لَيْسَ بِدُنُوِّ حَدٍّ، وَإِنَّمَا دُنُوُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ، وَقُرْبُهُ مِنْهُ إِبَانَةُ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ، وَتَشْرِيفُ رُتْبَتِهِ، وَإِشْرَاقُ أَنْوَارِ مَعْرِفَتِهِ، وَمُشَاهَدَةُ أَسْرَارِ غَيْبِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مَبَرَّةٌ، وَتَأْنِيسٌ وَبَسْطٌ وَإِكْرَامٌ، وَيَتَأَوَّلُ فِيهِ مَا يُتَأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا» عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ: نُزُولَ إِفْضَالٍ، وَإِجْمَالٍ، وَقَبُولٍ، وَإِحْسَانٍ. قَالَ الْوَاسِطِيُّ : مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ بِنَفْسِهِ جَعَلَ ثَمَّ مَسَافَةً، بَلْ كُلَّمَا دَنَا بِنَفْسِهِ مِنَ الْحَقِّ تَدَلَّى بُعْدًا يُغْنِي عَنْ دَرْكِ حَقِيقَتِهِ، إِذْ لَا دُنُوَّ لِلْحَقِّ، وَلَا بُعْدَ. وَقَوْلُهُ: {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} فَمَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ، لَا إِلَى جِبْرِيلَ عَلَى هَذَا كَانَ عِبَارَةً عَنْ نِهَايَةِ الْقُرْبِ، وَلُطْفِ الْمَحَلِّ، وَإِيضَاحِ الْمَعْرِفَةِ، وَالْإِشْرَافِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِبَارَةً عَنْ إِجَابَةِ الرَّغْبَةِ، وَقَضَاءِ الْمَطَالِبِ، وَإِظْهَارِ التَّحَفِّي وَإِنَافَةِ الْمَنْزِلِ، وَالْمَرْتَبَةِ مِنَ اللَّهِ لَهُ. وَيُتَأَوَّلُ فِيهِ مَا يُتَأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ: «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» قُرْبٌ بِالْإِجَابَةِ وَالْقَبُولِ، وَإِتْيَانٌ بِالْإِحْسَانِ وَتَعْجِيلِ الْمَأْمُولِ.
[حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا السِّنْجِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا، وَفَدَوْا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا، لِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي، وَلَا فَخْرَ». وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ زُخْرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ - فِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ: «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا، وَأَنَا قَائِدُهُمْ إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا أَنْصَتُوا، وَأَنَا شَفِيعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أُبْلِسُوا، لِوَاءُ الْكَرَمِ بِيَدِي، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي، وَلَا فَخْرَ، وَيَطُوفُ عَلَيَّ أَلْفُ خَادِمٍ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «وَأُكْسَى حُلَّةً مَنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمُقَامَ غَيْرِي». وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ، وَلَا فَخْرَ، وَمَا نَبِيٌّ يَوْمَئِذٍ، آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ، إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، وَلَا فَخْرَ». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ». وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- : «أَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَنَا أَوَّلُ مُشَفَّعٍ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَقَ الْجَنَّةِ، فَيُفْتَحُ لِي فَأَدْخُلُهَا، وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخِرِينَ، وَلَا فَخْرَ». وَعَنْ أَنَسٍ: «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يُشَفَّعُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَا أَكْثَرُ النَّاسِ تَبَعًا». وَعَنْ أَنَسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَدْرُونَ بِمَ ذَلِكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخِرِينَ»، وَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَطْمَعُ أَنْ أَكُونَ أَعْظَمَ الْأَنْبِيَاءِ أَجْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ، وَعِيسَى فِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّهُمَا فِي أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَيَقُولُ: أَنْتَ دَعْوَتِي، وَذُرِّيَّتِي، فَاجْعَلْنِي مِنْ أُمَّتِكَ. وَأَمَّا عِيسَى فَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ بَنُو عِلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَإِنَّ عِيسَى أَخِي لَيْسَ بَيْنِي، وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ». قَوْلُهُ: «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»: هُوَ سَيِّدُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلَكِنْ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِانْفِرَادِهِ فِيهِ بِالسُّؤْدُدِ، وَالشَّفَاعَةِ دُونَ غَيْرِهِ، إِذْ لَجَأَ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَجِدُوا سِوَاهُ. وَالسَّيِّدُ: هُوَ الَّذِي يَلْجَأُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِمْ، فَكَانَ حِينَئِذٍ سَيِّدًا مُنْفَرِدًا مِنْ بَيْنِ الْبَشَرِ، لَمْ يُزَاحِمْهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ، وَلَا ادَّعَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غَافِرٍ: 16]. وَالْمُلْكُ لَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لَكِنْ فِي الْآخِرَةِ انْقَطَعَتْ دَعْوَى الْمُدَّعِينَ لِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَكَذَلِكَ لَجَأَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعُ النَّاسِ فِي الشَّفَاعَةِ، فَكَانَ سَيِّدَهُمْ فِي الْأُخْرَى دُونَ دَعْوَى. وَعَنْ أَنَسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ. فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ أَلَّا أَفْتَحَ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ». وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو : قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، كِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا». وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ نَحْوَهُ، وَقَالَ: طُولُهُ مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ، يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ. وَعَنْ ثَوْبَانَ مِثْلُهُ، وَقَالَ: أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ، وَالْآخَرُ مِنْ وَرِقٍ. وَفِي رِوَايَةِ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ : كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ. وَقَالَ أَنَسٌ: أَيْلَةُ وَصَنْعَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : كَمَا بَيْنَ الْكُوفَةِ، وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. وَرَوَى حَدِيثَ الْحَوْضِ أَيْضًا أَنَسٌ، وَجَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَحَارِثَةُ بْنُ وَهْبٍ الْخُزَاعِيُّ، وَالْمُسْتَوْرِدُ، وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَأَبُو أُمَامَةَ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ جَبَلَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ بُرَيْدَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْبَرَاءُ، وَجُنْدُبُ، وَعَائِشَةُ، وَأَسْمَاءُ بِنْتَا أَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرَةَ، وَخَوْلَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
|